الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ مَا تَقَدَّمَ جُمْلَةً تَامَّةً ظَاهِرٌ يُسِيغُهُ الْفَهْمُ بِغَيْرِ غُصَّةٍ، وَلَا يَعْتَرِضُ الذِّهْنَ فِيهِ شُبْهَةٌ وَلَا كَبْوَةٌ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّ جُمْلَةَ {يُؤْمِنُونَ} إِلَخْ. حَالِيَّةٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ لَا خَبَرِيَّةٌ، أَوْ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ جُمْلَةُ {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ} فِي آخِرِ الْآيَةِ. وَقَدْ رَاجَعْتُ تَفْسِيرِ الرَّازِيِّ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تِقَدَّمَ فَإِذَا هُوَ يَجْزِمُ بِأَنَّ الرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا هُوَ يُفَسِّرُ الرَّاسِخِينَ بِالْمُسْتَدِلِّينَ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَكُونُ بِحَيْثُ إِذَا شُكِّكَ يَشُكُّ، وَأَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ لَا يَتَشَكَّكُ أَلْبَتَّةَ، وَأَوْرَدَ فِي قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَإِلَّا لَقَالَ: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ إِلَخْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، هُمْ وَمُؤْمِنُو الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ.وَأَمَّا قولُهُ، تَعَالَى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} فَهُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، والْمُقِيمِينَ فِيهِ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوِ الْمَدْحِ، عَلَى مَا قَالَهُ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ سِيبَوَيْهَ وَغَيْرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَعْنِي أَوْ أَخُصُّ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَإِنَّهُمْ أَجْدَرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُوخِ فِي الْإِيمَانِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الْعِنَايَةِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ، وَالنُّكْتَةُ هُنَا مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ مَزِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَكَوْنِ إِقَامَتِهَا آيَةَ كَمَالِ الْإِيمَانِ. عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ فِي كَلِمَةٍ بَيْنَ أَمْثَالِهَا يُنَبِّهُ الذِّهْنَ إِلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا، وَيَهْدِي الْفِكْرَ إِلَى اسْتِخْرَاجِ مَزِيَّتِهَا، وَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْبَلَاغَةِ، وَنَظِيرُهُ فِي النُّطْقِ أَنْ يُغَيِّرَ الْمُتَكَلِّمُ جَرَسَ صَوْتِهِ وَكَيْفِيَّةَ أَدَائِهِ لِلْكَلِمَةِ الَّتِي يُرِيدُ تَنْبِيهَ الْمُخَاطَبِ لَهَا؛ كَرَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ خَفْضِهِ أَوْ مَدِّهِ بِهَا، وَقَدْ عَدَّ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ الْجَاهِلِينَ أَوِ الْمُتَجَاهِلِينَ مِنَ الْغَلَطِ فِي أَصَحِّ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُقِيمِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى الرُّسُلِ، وَبِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ أَنْفُسُهُمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [21: 73] أَيْ: إِقَامَتُهَا، أَوِ الْمَلَائِكَةُ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [37: 165، 166] وَوَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [21: 20] وَالْإِيمَانُ بِهِمْ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ كَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ.وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا أَبْلَغُ عِبَارَةً، وَإِنْ عَدَّهُ الْجَاهِلُ أَوِ الْمُتَجَاهِلُ غَلَطًا أَوْ لَحْنًا، وَرُوِيَ أَنَّ الْكَلِمَةَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعَةٌ {وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ، وَعَمَّنْ قَرَأَهَا مَرْفُوعَةً؛ كَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَعِيسَى الثَّقَفِيِّ كَانَتْ قِرَاءَةً، وَإِلَّا فَهِيَ كَالْعَدَمِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ لَحْنًا سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، وَقَدْ ضَعَّفَ السَّخَاوِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَفِي سَنَدِهَا اضْطِرَابٌ وَانْقِطَاعٌ؛ فَالصَّوَابُ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، وَلَوْ صَحَّتْ لَمَا صَحَّ أَنْ يُعَدَّ مَا هُنَا مِنْ ذَلِكَ اللَّحْنِ؛ لِأَنَّهُ فَصِيحٌ بَلِيغٌ، وَإِنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ، رَاجَعْتُ الْكَشَّافَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ لِبَيَانِ فَضْلِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ كَسَرَهُ سِيبَوَيْهَ عَلَى أَمْثِلَةٍ وَشَوَاهِدَ. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا زَعَمُوا مِنْ وُقُوعِهِ لَحْنًا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ مَنْ يَنْصُرُهُ فِي الْكِتَابِ أَيْ كِتَابِ سِيبَوَيْهَ وَلَمْ يَعْرِفْ مَذَاهِبَ الْعَرَبِ وَمَا لَهُمْ مِنَ النَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ مِنْ الِافْتِنَانِ، وَغُبِّيَ عَلَيْهِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَانُوا أَبْعَدَ هِمَّةً فِي الْغَيْرَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَبِّ الْمَطَاعِنِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا فِي كِتَابِ اللهِ ثُلْمَةً لِيَسُدَّهَا مَنْ بَعْدَهُمْ، وَخَرْقًا يَرْفُوهُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ. اهـ.وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَطْفًا عَلَى الرَّاسِخُونَ وَعَلَى ضَمِيرِ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. أَوْ كَذَلِكَ، أَيْ مِثْلَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِثْلَ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ بِالتَّبَعِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَسْتَلْزِمُ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ الَّذِي يُقِيمُ الصَّلَاةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَمْنَعَ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُعْلِي هِمَّتَهُ، وَتُزَكِّي نَفْسَهُ، فَيَهُونُ عَلَيْهِ مَالُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [70: 19- 22] إِلَخْ.وَقَدْ يَرِدُ هاهنا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَذْكُرَ الْإِيمَانَ بِاللهِ قَبْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، سَوَاءٌ ذَكَرَ الْإِيمَانَ غُفْلًا مُطْلَقًا، أَوْ ذُكِرَتْ أَرْكَانُهُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [18: 107] وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ وَكَقَوْلِهِ: {إِنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [2: 62] وَالْجَوَابُ: أَنِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ هِيَ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَهَمُّ؛ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ لَا الْأَهَمُّ فِي ذَاتِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ تَخْطِئَةِ الْمُفَاخِرِينَ بِدِينِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [4: 124] بَعْدَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فَالسِّيَاقُ لِبَيَانِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعَمَلِ بِالدِّينِ، لَا بِالِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ وَإِلَى الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَالْفَخْرِ بِذَلِكَ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْعَمَلِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالسِّيَاقُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ هُوَ بَيَانُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عَصْرِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَكَانَ الْمُهِمُّ أَوَّلًا بَيَانَ إِيمَانِ خِيَارِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ كَإِيمَانِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلِهِ، ثُمَّ كَوْنُ هَذَا الْإِيمَانِ إِذْعَانِيًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَاكْتَفَى مِنْهُ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِوَصْفِهِمْ بِأَوَّلِ صِفَاتِ الْكَمَالِ؛ أَيْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ كُلُّهُ سَنُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا، لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ مِنْهُمْ. اهـ.
|